القاصّ عبدالكريم الساعدي - العراق - شارع المعبد الغريب
شارع المعبد الغريب
كان حشرة. الآن تيقّن وبعد أكثر من ألف ليلة وليلة أنّه حشرة بامتياز، عيناه الغائرتان في محجري المجهول، تلامسان رائحة الظلمة وبرودة المكان وقذارة اللحى المحيطة به، تلتقطان أشباح الصراخ اليومي، تشمّان رائحة الدم واغتصاب الفروج المنبطحة كرهاً لفوضى الدجل. انزلق سمعه على صوت تكبير، ممزوج بهلع التوسل والارتجاف من المجهول لامرأتين تنتظران صدور مرسوم بهيمي مستكلب، يرسم فوق خطوط الجسد لعاب الشهوة. لا يعرف هذه المرّة لماذا بدأ يهتم بما يجري؟ أفزعه شهد الحرائق،
" ما لي أهمي تحت وطأة السواد ذلّاً؟ هل أضيع سدى في غموض، على قارعة معبد الشارع الغريب؟ "
راحت عيناه الملتصقتان بثقب الباب تتسلّلان بقلق شديد، تدوران في أرجاء المذبح، لا شيء سوى أشباح مرعبة اعتاد رؤيتها كلّ يوم، وامرأتين تتنفسان موتهما، مختنقتين بكابوس راقد فوق مقل صارخة بالذعر. يفرك عينيه أكثر من مرة، تصطدمان باحتضار الصمت، الجميع ينتظر عزف أسطورة الغنائم لشيخ نصفه عمامة، والنصف الآخر شفاه غليظة، تأبّط الفتاة الصغيرة وكأنّه قبر يلتهم موتاه،
" هذه لي، وهذه لكم".
ما هي إلّا مسافة وجع، فيتبعثر جسد الأم بين سيقان مرتجفة بالحقد والعهر، وبين صراخ ابنتها المعلّقة فوق أشواك الانتظار، جسد يختصر قدراً مخيفاً على بلاط يرتدي اسم الإله. يرتدّ إلى الخلف، يصفق جبهته بكلتا يديه، يندلق غضب من عينيه من هول المشهد، مطوّق بمسحة ندم. جفّف غضبه خوفاً، يسمع صرير باب غرفته، ينسلخ من صدأ الباب وجهاً ساقطاً من عروة الذبح،
- حافظْ على الفتاة حتى الصباح، أما هذه، فهي لك .
وجهان يجرحهما الرعب بقسوته، يستبدل الأقمار بباقة جراح مورقة بالعار. الضحيتان ترتجفان رعباً، برداً عند أحد زوايا الغرفة المطبقة بصمت مخيف، هو يرتعش داخل بركان أعماقه النابضة بذاكرة مقفلة بالذلّ وأحلام ممنوعة، يدرك أنّ الالتفات نحو الخلف موت أكيد. الأم تترقب انكسار صمته. ليلة شاسعة، مملوءة بالصراع، كم تمنّى أنّ تكون له امرأة. عيناه تتسلّقان ملامح أساها، يعتلي أفق مآقيها، رأى فيها نزوعاً لإشباع رغبته المقتولة منذ أن أصبح حشرة تافهة، تتشرنق داخل قذارة المكان، ولمّا طالت الثواني أدركت الأمّ أنّ عيني الرجل معلّقتان بأهدابها، اطمأنت على ابنتها من هذا الوحش الكاسر، إلاّ أنّ نظرات عيونها المنكسرة، عبرَت أفق غريزته، راح ينظر بعيون ملؤها الألم خارج حدود إرادته، ارتعش خائفاً متألماً مرتعباً من مساومة الأمّ على جسدها:
- كلّي لك، مقابل أن تطلق سراح ابنتي الوحيدة لتعيش بشرف، ألم تكن لك ابنة؟. استحلفته بالله، استجدَت كلّ عواطفه، اقتربت منه، نفخت في حزنه، تحسّست آلامه، أصابه دفء منّها، حاول أن يلملم أشلاءه المفقودة وسط خاصرة الهوان، يسقط من قعر هوّة الضيم:
- إذا أطلقت سراح عينيك، فمن يطلق سراحي وأنا أنتظر موتي كلّ ساعة؟.
أجهش بالبكاء لمّا أحسّ بخيبته، وهو يحاصر فخذيها بطوق نظراته الخاسئة. كانت شاهداً على لوعته، وتماثل بقايا ضمير ينبض بالعويل. يحدّق باتجاه أشعة منكسرة لضوء خافت، تسلّل عبر نافذة ضريرة. راح يصارع أمواج الاضطراب العاتية، " ماذا بقي لي سوى ذاكرة تبحث عن هزيمتها؟ "
لم يعد الليل يتسع للتفاصيل، عَبدة هاجرت حواسها، إله مسجّى، متجهّم، مخلوقات غريبة تنعب، ذباب يصفعه الطنين، سنّارة تحلم بأجساد عارية، يجمعها، فيمسّ بعينيه رائحة القناديل، تضيء عزلته، أوقد النار في تكبيرة المعبد، المذبح، فيفرّ متعمّداً بخطوة فائرة ، يخرج محتمياً بظلّ امرأة تشهق بالدعاء.
عبدالكريم الساعدي
العراق
تعليقات