كواكب الأدب - مجلة عراقية أدبية ثقافية - سعادة أبو اعراق ( بيــت فـي يافــا)

قصــــــة للمســــــــاء
بيــت فـي يافــا
أكثر ما يحرج عزيز هو أن يَسأله شخصٌ؛ أين تسكن ؟ فلا يدري هل هو في سنجل أم ترمسعيا ، لذلك أنه يتردد خوفا من أن يعتب عليه الترامسة إن انحاز إلى سنجل والعكس أيضاً ، لذلك فإنه يقول إنني من باب الواد، أي في المنطقة الفاصلة ما بين سنجل وترمسعيا ، وهذا الوفاء الذي يكنه لكلا البلدتين جعلهم يسمون باب الواد ، بجورة عزيز، حتى أن ( إزايا )المستوطن العجوز في شيلو رغب في الاتصال به والتعرف إليه .
إذن من أين يكون هذا العزيز، انه عزيز بركات من يافا ، لم يهاجر هو وأمه إلى سنجل أو ترمسعيا ، لم يختر مكانَ هجرته حينما هربت به أمهُ من يافا في ربيع عام 48 ، واستقرت به في عمان ، لم يكن يدرك ما يجري وهي تجري به في أكناف الحيطان والأسوار ، ينهكه الجري فتحمله ، لكن ما أسرع أن تتوقف لتُكمل نحيبها على زوج تركته قتيلاً مُسجى في حوش البيت ، مات وهو يدرأ عدوانَ العصابات اليهودية ، فلم يكن أمامها إلا أن تنقذ ابنها وتفرُّ به ، هربت ولم تحمل إلا حقيبة يدها، وأساورها ، وحينما كانت تنتحب يذهب عزيز إلى الظن بأن أحدا قد ضربها فيسأل عن والده ليحميها فتزداد انتحابا، يغفو على كتفها ويستغرقه النوم في الشاحنة التي استقلتها كيفما اتفق، تتمنى أن تستمر الرحلة إلى الأبد، أو تمضي بها إلى الآخرة، ذلك أنها لم تحلم بمستقبل فيه كل هذا لاقتلاع والتشرد .
لم يكن انضمامه لمنظمة فتح التي تشكلت في الكويت خياراً مزاجياً، اتفق مع توجه بعض الأصدقاء المهندسين والأطباء والمحامين والمفكرين ، إنما مجال لينفث منه الاحتقان الذي شحنته به أمَّه ، التي لم تكفَّ عن القصِّ الحزين، عن بيتهم في يافا الذي كان تُحفَةً فنيةً ، ومعلماً مميزاً في شارع العجمي ، حتى ما عادَ يُقال بيتُ بركات قربَ صيدلية صَيْدَح ، بل يقولون صيدلية صيدح قرب فيلا بركات .
المهندس عزيز بركات عادَ إلى فلسطين بعد أربعين عاما من الغياب في الكويت ، على جناح اتفاقيات أوسلو ، كواحد من الذين تضمنتهم قوائم العائدين ، لم يكن يعرف أحداً في الضفة الغربية معرفة أخويّة سوى زميلٍ له من سنجل ، رافقه في العودة ، وعرض عليه المكوث في سنجل ، اشترى له قطعة أرض صغيرة بباب الواد ليبني عليها بيته ويستقر في سياق عودته إلى يافا.
وها هو قد استقرّ أخيراً على أرض فلسطين، تذكر تلك الخَربشات التي كان يرسم بها بيتهم في يافا ، على وقعِ أحاديثِ أمهِ الحزينة ، بيت سيبنيه على غرار البيت الذي لم يبارح حلمه وذاكرة أمه ، قال لأمه سأبني لك البيت الذي طردنا منه اليهود ، لم تفرحْ كثيراً وقالت لا يوجد نسخة أخرى عن فلسطين، عرف أن ألمها ما زال غائراً، جعله يقرر الذهابَ إلى يافا لأول مرة، على وقع سياحة القص التي كانت تقوم بها أمه في حي العجمي، واصفة كل شيء في طريقها حيث ُ تبدأ رحلتها من المستشفى الفرنسي حتى موقع تلَّة العرقنجي ومحل دولة ، وتستمر بالمسير إلى شارع كرم الزيتون وشارع الحلوة فصخرة آدم عند تقاطع محل دولة ، ثم تنحرف يمينا حتى صيدلية صيدح ، وبيتهم المقابل لها، يضيق الشارع ثم يستمر باسم شارع الكافور حتى المستشفى البلدي والكرنتينا وحي الجبالية إلى أن يلتقي غربا بشارع الحلوة وكرم الزيتون .
ها هو يحمل خارطة لملم مِزَقِها من أحاديث أمه ، فبدت كأنما قد ذاب معظم حبرها، سأل عجائز اليافيِّين الذين بقوا جذورا بها، أين صيدلية صيدح وفيلا بركات، دلوه فتمعن الفيلا والموقع، حاول أن يدخل البيت لكن لم يُسمح له، فصوره من الخارج من جهاته كلها ، وصور الحديقة والسور والبوابة والأشجار وحجر التاريخ والأسدين الحجريين وأصص الورد على افريز الفرندة، فوجد أن الزمن لم ينل من جماله ولا هندسته، اخذ الصور وحولها لمخطط معماري ، بنى وفقه بيتا كما هو بيت أبيه في يافا.
وها هو (إزايا ) يلح على من يعرفهم من سنجل وترمسعيا كي يقبله عزيزٌ ضيفاً عليه، فهو منذ أن اكتمل هذا البيت، لا يبرح تأمله كلما مرَّ بجانبه، قادماً إلى شيلو أو مغادراً منها، لا يعرف أين رأى مثل هذا البيت، لعله مثل البيت الذي سكنه في يافا، فلا يعجب إذ تعلق به قلبه من أول نظرة، أما السياسي العتيق عزيز، فقد أبى أن يلوث تاريخه الناصع بهذه الزيارة التي لا معنى لها .
ازدادت أمه نحيباُ وتذكراً ، فالبيت تماماً كما تركته ، لا يختلف إلا في عمره الفتي، إلا في رائحة البحر ونسيم هوائه ، ودونما مقدمات تقول ، هناك سقط أبوك حين هاجمه أربعة، ثلاث نساء وجندي واحد، اشتبك معهم في جدال، لكن الرجل أشهر بوجهه الرشاش الصغير، وأطلق عليه النار من قرب وسقط بلا حراك، بعدها دخلن الثلاثة البيت، يطلقن الرصاص وأنا اصرخ وأضمك، وأهرب متوارياً عنهن للخارج، مررت بابيك وهو منكفئ على وجهه، والدم يسيل من تحته...
كان القص مرعباً والحزن ما زالَ اخضرَ، كان يسألها عن القاتل فتقول أعرفه ... أعرفه من بين ألف رجل، لا يمكن لي أن أنساه .
يتمنى عزيز أن لا يكون قد بنى هذا البيت الحلم ، إذ جعل الذكريات أكثر قرباً ، وجعل صحة الحجة تذوي وتتراجع ، تجعل من المحتم عليه أخذها اليوم للمستشفى ، تمشي بتؤدة تتكئ يمناها على عصا و تتلمس باليسرى حوافَ الحائط الملتفّ سوراً حول البيت، وعزيز يسبقها للسيارة و( إزايا ) يمر بسيارته ، عجوزاً ينزل منها متوجها نحو عزيز، يسلم عليه ويقول :
- ألا تقبلني ضيفاُ ؟
يتفاجأ به ويتذكر أن مستوطنا طلب زيارته ،قال له :
- من أ نت ؟
- أنا (إزايا) .
نظر إليه وقال:
- هل هناك زيارات بيننا .
فرد (إزايا) و كأنه متوقع لمثل هذا الموقف .
- علينا أن نختلق الزيارات .
هز رأسه وقال
- إنها فكرة سياحية .
وأخيراً وصلت أم عزيز، تحاول اجتياز عتبة البوابةِ بصعوبة ، هرع إليها يمسكها ليوصلها باب السيارة المفتوح، نظرت إلى العجوز الغريب الواقف يتأمل تفاصيل البيت، وحينما قال بالإنكليزية كأنه يهمس لنفسه ( إنه تماما كالبيت الذي سكنته بيافا ) لم تقتحم جملته سمعهما ، لكن أم عزيز سألت ابنها مستفسرة عن هذا الواقف، قال لها مستوطن يمر بالطريق، أعادت التحديق به مرة أخرى فصرخت، إنه هو، إنه قاتل أبيك،وسقطت على الأرض، حملها إلى السيارة وهو لا يعلم أن كانت حية أم ميتة ، لكنه قال وهو يغلق باب السيارة عليها.
هل جئت تسكن شيلو لتقتلني، أم جئت لتمكنني من قتلك ؟
تعليقات