كواكب الأدب - مجلة عراقية أدبية ثقافية · سعادة أبو اعراق - محاكمة في بيت إيـل


قصــــــة للمســـــــــاء
 محاكمة في بيت إيـل
وأخيراً تُعقَدُ اليومَ في بيت إيل محكمة علنية لمحاكمة قاتل( نخميا) ، قلما تستأثر قضية بهذه الأهمية وهذا الحضور الصحفي والحقوقي والاجتماعي، ذلك أن مقتل العجوز (نخميا) أثار ألما أخلاقيا عند كل الذين سمعوا الخبر بالإذاعة والتلفزيون ، أو قرؤوه بالصحف أو تناقلوه عبر الألسن والأحاديث الجانبية ، وبدا المجتمع الإسرائيلي كأنه لم يسمع بجريمة قتل من قبل ،أو كأنها جريمة القتل الأولى التي اقترفها قابيل ( فنخميا) الذي وجد مقتولا بشقته الصغيرة في شيلو لم يكن شخصا استثنائيا، ولا سكناه وحيدا منفردا كان أمرا غير طبيعي، ولا مقتله كرجل ثمانيني فعلٌ لم يحدث قط، إذن ؛ هل هو عهر مجتمعي يُشْعِر الإسرائيليين أنهم يستنكرون القتل ؟ وأنهم لم يقتلوا الفلسطينيين بكل بما أوتوا من سبل ، أو لعلهم يرسلون رسالة للعالم أنهم مجتمع خال من قتلة محترفين لا يتركون أثارا لجريمتهم ، وربما يقولون أنهم مازالوا أغرارا في الجريمة، ولم يصلوا بعد مرحلة الاحتراف .
أمس وبعد زمن كثرت فيها الإشاعات، حتى بدا لهم أنهم على أبواب عصر الجريمة المحكمة، وأن الفلسطينيين وراء كل الجرائم التي ترتكب، وجعلت علماء الاجتماع والجريمة نجوما دائمين على شاشات التلفزيون وأثير الإذاعات، أمس فقط أعلنوا عن أسم القاتل( حافير دوف ) من مستوطنة شيلوه، حيث قالت بعض التسريبات الصحفية أن (نخميا) سحب أرصدته من بنك هامزراحي، وانه حملها بحقيبة جلدية علقها على كتفه، كما رصدته كاميرا التصوير خارجا يسير ببطء متثاقلا على نفسه ، وكذلك صوَّرته الكمرة الخارجية يركب سيارة أجرة .
الآن هي العاشرة صباحا، يؤتى( بحافير طوف) بسيارة مصفحة، على أعين الصحفيين والمراقبين وجمعيات حقوق الإنسان، ولا يشك أحد من الموجودين بالعقاب الحتمي لجريمة حدثت مع سبق الإصرار والترصد، ها هو ينزل، يغطي رأسه بقميص، يصوره الصحفيون على هذا الشكل، ويمضون به إلى الداخل .
في الداخل، كل الآذان مشنفة على شفاه المدعي العام ، الذي سيوضح التهم المنسوبة إليه دون أن يشوبها شائبة شك ، كي لا يجدها محامو الدفاع منفذا لتبرئته، يجلس القضاة الثلاثة، ويبدأ المدعي العام مرافعة اتهامه، وبدا معنيا باستعراض الأسلوب المتطور والمنهجية العلمية التي اتبعتها أجهزة التعقيب والتحري للإمساك (بحافير)، إذ تابعوا كل الأشخاص الذين ظهروا في كمرة المراقبة الداخلية والخارجية، اعتمادا على افتراض أن أحدا كان يراقبه، وأن الرزم النقدية التي استلمها كانت جديدة، وبالتالي لها أرقام متسلسلة، وأنها سُرِقَت كاملة من بيته بعد أن أُردي قتيلا، ذلك انه لم يحدث عراك يدوي على النقود، لذلك تم التعميم على جميع البنوك لمراقبة إيداع المبالغ الكبيرة، وطلبات وفتح الحسابات الجديدة ، والتدقيق على أرقام العملة الجديدة من فئة (جيمل) التي أُعطيت (لنخميا )
نَبَّه رئيس المحكمة المدعي العام بأن ما يُطنب به ليس مهما في المرافعة، وأنه استطراد لا نفع منه، المهم هو ما أنيط له من تهم هي صحيحة ومدعمة بالشهود والإثباتات أم لا ؟
قال المدعي العام : إن الاعتراف سيدي القاضي هو سيد الأدلة والشهود بالإضافة إلى أن له سجلاً إجرامياً ، إذ حوكم في هذه المحكمة الموقرة قبل فترة بجريمة قتل، ها هو قد اعترف بملاحقة المجني عليه حتى باب شقته، لم يكن( نخميا) متنبها له وهو يقف خلفه، فما أن فتح الشقة ودخل ثم استدار ليقفل الباب ، ووقعت عيناهما على بعض، فعرف كل منهما الآخر، دفعه للداخل، فأسقطه على ظهره، فأُفلتت منه الحقيبة، التقطها وهم بالهرب، لولا فكرة خطرت له، فعاد ليقتله خوفا من أن يشي به، فرأى في قتله منجاة له من التحقيق ، فأخرج سكينا من تحت حزامه وأجهز عليه بعدة طعنات ثم تركه ينزف وذهب بحقيبة النقود .
سأل القاضي المتهم (حافير طوف) :
- هل ما قاله المدعي العام صحيحا
قال ( حافير) نعم سيدي
- هل اعترفت تحت التهديد؟
- لا سيدي
- إذن فأنت تعترف بأنك قتلت (نخميا)
- نعم سيدي
- إذن أنت قتلت وسرقت
- نعم سيدي
- هل وكّلت محاميا للدفاع عنك
- نعم إنه (رافي بيساح )
- إذن فليتفضل محامي الدفاع بالمرافعة
استغرب الحضور قبول المحامي (رافي بيساح ) الدفاع عن هذا المجرم المعترف بجريمته وبالتالي فإن عقوبته معروفة مسبقاً ، لكن بعض الناس قال إنه للتأكد من أن الإجراءات القانونية وضمان تنفيذ العدالة سليمة.
وقف المحامي (رافي) واثقا من نفسه ، وقال
سيدي القاضي، لا أقف هنا لكي انفي عن موكلي تهمة القتل، فما بعد اعترافه من قول لمستزيد، ولكني أريد أن تسمحوا لي أن أسأله أسئلة يجيب عليها أمامكم :
- هل سبق لك يا (حافير) أن قتلت إنسانا ؟
- نعم ، قتلت الفلسطيني صيّاح القريوتي
- وهل حوكمت على هذه الجريمة ؟
- نعم
- أين؟
- في هذه المحكمة ، وأمام هذا القاضي .
- وبماذا حُكم عيك ؟
- بالبراءة
ضجت القاعة صخباً واستغراباً ،إذ توحي باتهامية الأسئلة، وتسخيفٍ لذكاء الحضور، لكن المحامي قال :
- أنهيت أسئلتي أيها القاضي، وهذه نسخة مصورة لملف القضية التي اتهم فيها وحوكم وتم تبرئته، وإني أضع نسخة أمام عدالتكم، لتتأكدوا من أختامها وتواريخها وتوقيعاتها، وحكم البراءة المشفوع بشهادة تطعن في سلامة عقله وحسن تفكيره وتصرفه، وإذا لاحظتم سيدي تاريخ التقرير الطبي المقدم من هيئة أطباء نفسيين وفسيولوجيين هو قبل ثلاثة أشهر، وبناء على هذا التقرير المقدم تم إخلاء مسؤولية المتهم من ارتكاب الجريمة.
- ذهلت القاعة فقال القاضي
- ماذا تريد من قولك هذا ؟
- أريد أن اسأل، هل هذا التقرير ما زال ساري المفعول، وهل يمكن شفاؤه من مرضه العقلي هذا خلال هذه الأشهر ؟
- لست انا الذي يقرر.
- وهل هذا التقرير علميٌ مستندٌ إلى فحوصات سريرية ومخبرية
- إن شئت نعرضه على خبراء لدى نقابة الاطباء.
- جيد، إن كان هذا التقرير مازال ساري المفعول، واللجنة الطبية صادقة بتقريرها فعليك تبرئة المتهم (حافير طوف)، كما برأته سابقا اعتمادا على نفس التقرير، أو تعيد محاكمته لينال عقوبتين .
- لكن القضيتان مختلفتان
- الاختلاف في الضحية، وليس في القضية، هل يوجد في القانون ما يفرق بين إنسان وإنسان ، بين يهودي وغير يهودي ؟
- طبعا لا .
- لن أجادلك هنا في مبدأ الكيل بمكيالين، ولكن أريد ان أقرر لك، بانك حينما تواطأت معه في قتل (صياح القريوتي) فأنت أيضا تواطأت معه لقتل( نخميا )
ضجت القاعة صخبا إذ أصبح القاضي مدانا والمحامي مدع عام والمذنب بريئا والبريء مذنبا.

تعليقات

المشاركات الشائعة