مجلة كواكب الأدب الثقافية - الطّيب جامعي - قصة قصيرة . عـــــــــــــائشة
قصة قصيرة .
عـــــــــــــائشة
دقّت طبول الفرح في شغاف القلب قبل أن تعمّ ساحة بيتها الجديد . سبع سنوات و هي تنتظر هذه اللّحظة . سبع سنوات و هي تجاهد لتكذيب الرّؤيا.
عـــــــــــــائشة
دقّت طبول الفرح في شغاف القلب قبل أن تعمّ ساحة بيتها الجديد . سبع سنوات و هي تنتظر هذه اللّحظة . سبع سنوات و هي تجاهد لتكذيب الرّؤيا.
كانت في زمرة من صديقاتها ينتظرن حصّة الدّرس المسائية . بصوتها الغائم و يديها المرتعشتين تطوف باحثة عن زبون محتمل. إحدى الصديقات قالت :" لنتسلّ قليلا..."، و إذا بها تقود " الدّادا " إليهنّ، و تنظر إلى "عائشة" نظرة فهمت مغزاها جيّدا. ردّت صامتة بحركة رأسيّة. غيرأنّ صديقاتها يُلْحِحن عليها و يُصْرِرن . وعلى مضض ترضخ لرغبتهنّ. هي مجرّد مزحة كما صرّحن لها.
كنّ يحببنها منذ الصّغر، لجمالها و ظرفها و رجاحة عقلها ."عائشة" في ربيع عمرها ترسم مع لِدَاتها أحلاما تجنّح إلى عنان السّماء: الزّواج ، الأبناء و الأسرة السّعيدة. كنّ يغبطنها على مكانتها الاجتماعيّة المرموقة، فجمالها الفتّان يسلب عقول الشّباب قبل قلوبهم . حُلْمُها بالأبناء سلب عقلها وأناخ على آمالها بكل كلكله. لم تعد ترى الدّنيا إلّا زهور العمر تنطّ هنا و هناك ، حتّى إنّ زميلاتها كنّ يَلُمْنها على رغبتها الملحّة في إنجاب أكثر من طفلين، و كنّ يتساءلن عن تكاليف الحياة و الجهد المُضْني .
تفرّست "الدّادا " في عينيها ، و على مسطّح فرشت صرّة الرّمل، ربّتت على الحبيبات اللّينة ، ثم خطّت بعود أعرج على صفحة الرّمل النّاعم.نظرت. أعادت النّظر. قطّبت . انحنت حتى كاد أنفها يُعَفّر بالرّمل. و كأنّ شحنة من الكهرباء سرت في جسم "عائشة" فركبتها رعدة اقشعرّ لها كامل البدن. قالت و هي تستعيذ بالله من الشّيطان الرّجيم:" اللّهم اجعله خيرا. كذب المنجمّون
و لو صدقوا". تقرفص "الدّادا" مقوّمة جذعها تواري جاهدة اعوجاج هامتها. تضرب على ركبتيها. و بعينين زائغتين تنفث تنبؤها." ضباب ...سراب.... سراب". لملمت صرة الرّمل ، وانصرفت. لم تطلب حتّى أجرتها.
و لو صدقوا". تقرفص "الدّادا" مقوّمة جذعها تواري جاهدة اعوجاج هامتها. تضرب على ركبتيها. و بعينين زائغتين تنفث تنبؤها." ضباب ...سراب.... سراب". لملمت صرة الرّمل ، وانصرفت. لم تطلب حتّى أجرتها.
"عائشة " المثقفة ، على أبواب التخرّج ،خلخلتها الرّؤيا . فقد استقرّت في جانب من ذاكرتها تخزها في كلّ مرّة و تنغّص عليها حياتها رغم تظاهرها بعدم الاعتقاد في التنجيم و قراءة البخت. لم تفهم معناها ،ولكن ما تعرفه أنّ الضّباب والسّراب نذيرا شؤم.
رقصت تلك اللّيلة كما لم ترقص من قبل و غنّت. انقضى شهر العسل في السّفر و الترحال. حدّثته عن الأسرة و الأولاد. حدّثته عن السنّ الّتي تأخرت بها. استعجلته الأولاد. كان يريد التريّث قليلا و لكن تحت هذا الإلحاح رضخ لمشيئتها و قرّرا الإنجاب سريعا. تنهّدت من أعماقها.و أخيرا... استطاعت أن تطمس تلك النبوّة التي لزمتها منذ سنوات.
تذكّرت كيف تعرّفت إلى أوّل فتى أحلامها . هو زميلها في الدّراسة، تعرفه حقّ المعرفة، و تطمئن إليه .يوم جدّ الجدّ انقطع حبل الوصال. لم ترض أمّه بهذه الزّيجة لخلاف قديم بين العائلتين،فابتعد تاركا لوعة في قلب غضّ. دارت الأيام دورتها، فأنستها أوّل لوعة، إذ تعرّفت إلى شابّ في مقتبل العمرعلى حظّ كبير من الجاه . ذات لقاء سار بهما المركب بعيدا، فانجرف إلى حمأة غرائزه ،و فكّر في قطف التّفاح قبل النّضج. كانت صدمتها كبيرة ، فانسحبت في صمت وقد فُتِح جرحٌ غائر.
قفزت من جديد إلى ذهنها تلك الرّؤيا، أرهقت نفسها بتأويلها. ومنذ ذلك العهد تعرّفت إلى رجال و رجال ،و في كلّ مرّة تبطل الزيجة لسبب أو لآخر، فاستقرّت النبوءة في ذاكرتها منغّصا ينذر بالشرّ.
قفزت من جديد إلى ذهنها تلك الرّؤيا، أرهقت نفسها بتأويلها. ومنذ ذلك العهد تعرّفت إلى رجال و رجال ،و في كلّ مرّة تبطل الزيجة لسبب أو لآخر، فاستقرّت النبوءة في ذاكرتها منغّصا ينذر بالشرّ.
بنهاية العدّة أحسّت بوخز خفيف ، تحدّثت عنه لصديقاتها . تغامزن ، و انخرطن في ضحك طفوليّ. بشّرنها بحلمها الذي طالما انتظرته و كانت "الدادا" قد غيّمته ببعض كلمات مبهمة . تورّد خدّاها حياء و هي تنظر إليهنّ، طالبة إليهنّ الكفّ عن إحراجها.
مرّت الأيّام سريعا، و سرعان ما برز تكوّر بطنها. كانت سعادتها تكبر باستمرار و هي تحسّ بأولى حركاته.غير أنّ الهواجس كانت تقضّ مضجعا. فالألم لم يَزُلْ كما وعدتها صديقاتها، بل زاد. في إحدى المرّات اشتدّ كثيرا . لم تستطع الاحتمال. فأخذها زوجها إلى أقرب مستشفى . في الطّريق طمأنها زوجها قائلا:" قريبا ستصبحين أُمّا"، فقرّت عيناها. وهدأت قليلا.
الحركة متصلة في رواق غرفة العمليّات. كان زوجها يتابع ما يجري و لأول مرّة أحسّ بانقباض في صدره. حاول معرفة السبب. أحد الممرّضين همس له: " لابدّ من إجراء العمليّة لإخراجه". ثمّ ذاب داخل القاعة.
ما بعد العمليّة كان خطبا جليلا. استفاقت "عائشة " ، لم تستطع النّهوض مدّة ثلاثة أيّام. عادت الرّؤيا كأقوى ما يكون. ابني.. ! ؟ ابني .. !؟ صاحت، بكت . ترجّت.
ما بعد العمليّة كان خطبا جليلا. استفاقت "عائشة " ، لم تستطع النّهوض مدّة ثلاثة أيّام. عادت الرّؤيا كأقوى ما يكون. ابني.. ! ؟ ابني .. !؟ صاحت، بكت . ترجّت.
إلى جانب سريرها يدنو بزيّه الأبيض الملائكيّ، مبتسما قال:
- حمدا لله على السلامة، كُتِب لك عمر جديد .
- ابني؟
- بذلنا ما بوسعنا من طاقة. حمدا لله. تجاوزت الخطر.
- ابني؟ ... أريد ابني ... أين ابني؟
بخبرة السنين يحدثها عن حقيقة حملها و عن القضاء و القدر. لم يكن حملا عاديّا ، فقد نما إلى جانبه ورم تضخّم بمرور الوقت. ومن حسن حظّها أنّه كان حميدا. حدّثها عن استحالة إنجاب الأبناء لاحقا، فقد استُئْصِل كامل الرّحم.
بعينين غائمتين كانت تستمع ذاهلة ،كمن يتغشّاه الموت. لم تنبس ببنت شفة. فقط دمعتان حارّتان جرتا ،فرسمتا على الخدين خطّين أعرجين .
*******
الطّيب جامعي
- حمدا لله على السلامة، كُتِب لك عمر جديد .
- ابني؟
- بذلنا ما بوسعنا من طاقة. حمدا لله. تجاوزت الخطر.
- ابني؟ ... أريد ابني ... أين ابني؟
بخبرة السنين يحدثها عن حقيقة حملها و عن القضاء و القدر. لم يكن حملا عاديّا ، فقد نما إلى جانبه ورم تضخّم بمرور الوقت. ومن حسن حظّها أنّه كان حميدا. حدّثها عن استحالة إنجاب الأبناء لاحقا، فقد استُئْصِل كامل الرّحم.
بعينين غائمتين كانت تستمع ذاهلة ،كمن يتغشّاه الموت. لم تنبس ببنت شفة. فقط دمعتان حارّتان جرتا ،فرسمتا على الخدين خطّين أعرجين .
*******
الطّيب جامعي
تعليقات