القاص علي الحديثي - العراق - قصة قصيرة - الكلب الذي أكل البشرية
الكلب الذي أكل البشرية
لا شيء صحيح .. مثلما لا شيء خطأ في العالم .. نهران يصبان في نهر واحد .. يجف يوماً ما .. كل شيء هو نقيضه .. العقل هو الجنون .. الليل هو النهار ... الوجود هو العدم ... مصطلحات وضعها شخص ليخدع بها نفسه .. كل يوم يقطعون قطعة من الشمس لينحروها إلى قبلة الشياطين، حتى غدا نهارنا بلا شمس ... كل يوم يحرقون قطعة من الليل، ليتحول ليلنا رماداً تتسلى به رياح اليأس ... لماذا ؟ ومن أجل من ؟
صرخ بكلماته الأخيرة منتفضاً من كرسيه الهرم، كمن وخزته شوكة في غفلة الزمن المنهار .. ضرب بقلمه الأوراق المتناثرة فوق المنضدة، وأخرى افترشت الأرض جثثاً بعثرها القصف العشوائي .. القصاصات تملؤ سلة المهملات مختلطة بالأوراق .. أعقاب السكائر المستلقية في قعر المنفضة رؤوساً أهلكت أجسادها الأفكار اللاّ مستقرة ، اخذ يذرع الغرفة المضاءة بشدة .. الستائر مسدلة .. الباب مغلق بإحكام برغم يقينه بأن لا أحد سيدخل عليه، واضعاً اللمسات الأولى لكتابه الذي – كما يقول – سيصلح به البشرية .. نظراته تخترق النفوس، ممزِّقة الستارة التي وقف أمامها وقفة طبيب يحاول أن يشخّص المرض من وراء الجسد الواهن ..
- ما شأني أنا ؟ أين المصلحون ؟ أين أفلاطون ؟ أين ابن خلدون ؟ أين هم.. أين .. أين.. كتبهم تملؤ الأسواق لمئات السنين .. كم منها احترق .. كم منها ألقي في مزابل التاريخ ؟!
صرخ بكلماته الأخيرة منتفضاً من كرسيه الهرم، كمن وخزته شوكة في غفلة الزمن المنهار .. ضرب بقلمه الأوراق المتناثرة فوق المنضدة، وأخرى افترشت الأرض جثثاً بعثرها القصف العشوائي .. القصاصات تملؤ سلة المهملات مختلطة بالأوراق .. أعقاب السكائر المستلقية في قعر المنفضة رؤوساً أهلكت أجسادها الأفكار اللاّ مستقرة ، اخذ يذرع الغرفة المضاءة بشدة .. الستائر مسدلة .. الباب مغلق بإحكام برغم يقينه بأن لا أحد سيدخل عليه، واضعاً اللمسات الأولى لكتابه الذي – كما يقول – سيصلح به البشرية .. نظراته تخترق النفوس، ممزِّقة الستارة التي وقف أمامها وقفة طبيب يحاول أن يشخّص المرض من وراء الجسد الواهن ..
- ما شأني أنا ؟ أين المصلحون ؟ أين أفلاطون ؟ أين ابن خلدون ؟ أين هم.. أين .. أين.. كتبهم تملؤ الأسواق لمئات السنين .. كم منها احترق .. كم منها ألقي في مزابل التاريخ ؟!
الجدران تنظر إليه هازئة، مُعيدة إليه كلماته التي لم تفقه منها شيئاً، تسقط عيناه فوق الأوراق، يعتصرها بشدة ..
- ما أريد بهذه ؟ هل سأرقِّع الماضي وقد تهرّت ثيابه ؟! .. وليس هو الآن سوى ذكريات نستعيدها لحظات ثم ننساها ..
أم سأصلح المستقبل المجهول ؟.. لا اعرف عنه شيئاً .. فكل ما أكتبه أو أقوله تخمينات.. ظنون.. ما أتفهه من مستقبل حين يُبنى على الظنون .. بل ما شأني أنا وأنا حينها من الأموات ؟! .. أنا حي .. أتحرك .. أتكلم .. أرقص .. أغني .. (يقوم بحركات لو رآه احد بها لما شك بجنونه) .. ولم يستفد احد مني .. أيستفيدون مني وأنا ميت ؟! .. بأيِّ شيء أختلف عن .. هذه الصورة .. الكرسي .. المنضدة .. لا شيء .. لا شيء
سار إلى أزرار الكهرباء .. أطفأ الأضواء واحداً واحداً .. متخيلاً الشمس كيف أغرقوها – مستلذين – في بحار الدمع الأحمر .. واضعاً ستائر فوق الستائر المعلقة مانعاً أيّ نور يحاول التسلل إلى الغرفة.. متحسساً كالأعمى وسط الظلام .. وصل كرسيه .. أسند رأسه إلى الوراء، وبعدما تمشت عيناه على الجدران .. بين الأثاث الذي رقدت عليه الظلمات .. أغمضها .. مسترخياً استرخاء تامّاً، في محاولة منه لاختراق الزمن والرحلة عبر الكون ...
ارتسمت له الأرض يوم لم يكن عليها أحد .. صفير الريح يرقص فوق وبين ذرات التراب التي لم تطأها قدم بشرية .. الهدوء وحش أحكم سلطانه، نابتاً مخالبه في جسد العراء .. الجبال جثث معلقة بخيوط وهمية بالسماء .. سارت ذاكرته متعثرة في ممرات الفراغ الضيقة حتى وصل إلى الإنسان الأول.. وحده في القفار .. لا شيء يبحث عنه .. لا شيء يخافه أو يفكر به .. يحبه أو يحقد عليه .. كل شيء لا شيء ..فجأة .. اقتحم حياته شيء لا يعرف ما هو !.. إلاّ أنه شبيه به .. حاول معرفته ..إذاً .. صار له شيء يفكر .. انتابه إحساس غريب لم يعهده من قبل، يدفعه إليه بوحشية الذئاب الجائعة .. إحساس يضطرب كلما نظر إليه .. في سيره .. في جلوسه .. في اضطجاعه .. حتى رأى يديه تلتف حوله .. فكان ما كان بينهما، ومما كان سارت البشرية في مسراها .. عرف انه نصف والذي أمامه هو النصف المكمِّل له .. شعر بازدراء نحو نفسه، حين وجد نفسه ناقصاً لا يكتمل إلاّ بغيره .. استمر في سيره حتى وصل قابيل وهابيل .. ثم إلى .. ثم إلى .. حتى بلغ - عبر الزمن المظلم وقد عاش العصور كلها .. حربها وسلمها .. هدوءها وضجيجها – غرفته .. كرسيه الذي احتضن في دقائق معدودات تاريخ البشرية.. وجلس عليه في آن واحد الأنبياء والملاحدة .. الفلاسفة والحمقى .. الرياح والتراب .. الحقيقة والوهم .. وها هو التاريخ الآن يقف عند باب غرفته المغلق بوجهه، يستأذنه الدخول ليكمل سيره عبر عقله المشكوك بوجوده، ابتسم سائلاً نفسه:
- أيمكن للوجود أن يمر عبر اللاوجود !
اعتدل في جلسته ليكون قاضياً بلا متهم أو جريمة أو دفاع ... والتاريخ الهرم ملّ الانتظار، وهو يراقب من ثقب الباب أنامله التي ستحدد ساعة المسير ....
ليس أمامه سوى ظلمات ترقص على أنغام الصمت الذي يحاول الهروب من الغرفة، إلاّ أن الجدران .. الباب .. الستائر المتدلية كأجساد بشرية مصلوبة على خشبة الوهم، تلهب ظهره بسياط السخرية كلمّا دنا منها، ليعود إلى القاضي خاسئاً وهو حسير متخبطاً في الظلام ..
- لا بدّ من رسم الماضي .. الأساس الذي يقوم عليه المستقبل
قال ذلك وهو ينير الغرفة مرة أخرى، بعدما استقر قراره على كتابة الماضي سائراً على إثره نحو الآتي .. مشى إلى مكتبته وقد تجلت له مقبرة مليئة بالأموات التي ستقرر مصير البشرية .. مدّ يده مرتجفة ليرى أي القبور سينبش أولاً ..
- البداية والنهاية .. ابن كثير .. (قال تعالى :"خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ"، وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه الستة على قولين: فالجمهور على أنها كأيامنا هذه ... وكعب الأحبار: إن كلّ يوم منها كألف سنة مما تعدون ..) ..... بداية طيبة .
وضعه فوق المنضدة، فتلاه الطبري .. ابن الأثير .. تاريخ الحضارة .. كان يقرأ مقتطفات من الورقات الأولى من كل كتاب ..حتى امتلأت المنضدة بملايين السنين، جلس خلقها ناظراً إلى التاريخ المبعثر إمامه نظرة معتوه قرر أن يعيد الزمن، ويصلح ما اعوج منه ..
- في ساعة خرجت عن نطاق الزمن .. لم تحسب بالدقائق والثواني، وإنما بالكلمات والحروف .. في وقت لم يكن بالصباح ولا بالمساء .. توقفت الشمس عند حدود الفجر .. والقمر في الجهة الأخرى مستكيناً لما سيقرره القاضي بكلماته، ومن خلفه اصطفت الظلمات والنجوم صفاً صفاً، منتظرين لحظة النفخ في البوق الذي يحمله هذا المسمى بـ(الإنسان) بين أنامله.. في تلك اللحظة كل شيء تجمد وأخذ مكانه ..
كتب هذا وهو يدير رأسه محدقاً في اللا شيء، لتهوي نظراته مخدوعة في قعر الورقة.. كان فوقهم .. لم تخلق عيونهم له، إلاّ أنهم يعرفونه .. فُتِحَت باب صغيرة جداً، ليخرج منها ظلام شعّ في البقاع .. امتزج بنور الشمس، التف حول النجوم التفاف الأفعى بفريستها .. هاجت الرياح مرتعدة من أنفاسه .. أمّا القمر فما زال ذليلاً وهو يتصبب عرقاً من هذا المخلوق الجديد الذي سبقه الظلام للخروج ..أطّت السماء .. أصاخوا لصوتها وهي تشير إليه :
- يجب أن يُعَذَّب .. يجب أن يموت ..
تقدمت الشمس مغرورة :
- سأغريه بنوري حتى احرقه ..
وقال القمر بعدما استرجع شجاعته :
- سأتظاهر بالسكون وأكون لوحة أرسم فيها آلامه، فلا ينساها أبدا
كانت عيون الظلمات تقدح شرراً وهي تقول:
- سأستره حتى يطمئن، لتحوك له الشمس من ورائي ما تحوك ..
- الوهم قال مغاضباً : سأخدعه ..
حينها تقدمت الحقيقة ضاحكة بخبث :
- سأجعله يركض ورائي حتى يكلَّ، حينها سأشتري حياته بمعرفتي ..
المطر ... الرياح ... التراب ... كلٌّ أخذ مهمته التي ألزم نفسه بها ..إغفاءة لم تطل ثواني ليجدوا أنفسهم فوق الأرض .. و .. كلٌّ قد علم صلاته ..
عامان أو أكثر مرّ على شروعه بكتابة تاريخ البشرية، نظر في المرآة وهو يحمل الجزء الأول ليذهب به إلى المطبعة، خرج والمستقبل يدغدغ أفكاره الطائرة في عوالم ليس بينها وبين الواقع من صلة، بل ربما حتى ليست من الخيال نفسه .... ها هو صار رجلاً شهرته لا تنازع .. ليس هنا فحسب .. بل هنا وهناك وحتى هنالك .. أينما ذهب أشارت نحوه الأصابع:
- هذا الذي أعاد التاريخ وجعل الطماطم بخمسة دنانير.
- هذا الذي وقف الزمن عند بابه ليسأله: كم الساعة..
- سمعت انه مرشح لجائزة نوبل..
- بل إنني سمعت أن جائزة ستُستحدَث باسمه تعطى لأفضل مصففي الشعر ..
- ما أريد بهذه ؟ هل سأرقِّع الماضي وقد تهرّت ثيابه ؟! .. وليس هو الآن سوى ذكريات نستعيدها لحظات ثم ننساها ..
أم سأصلح المستقبل المجهول ؟.. لا اعرف عنه شيئاً .. فكل ما أكتبه أو أقوله تخمينات.. ظنون.. ما أتفهه من مستقبل حين يُبنى على الظنون .. بل ما شأني أنا وأنا حينها من الأموات ؟! .. أنا حي .. أتحرك .. أتكلم .. أرقص .. أغني .. (يقوم بحركات لو رآه احد بها لما شك بجنونه) .. ولم يستفد احد مني .. أيستفيدون مني وأنا ميت ؟! .. بأيِّ شيء أختلف عن .. هذه الصورة .. الكرسي .. المنضدة .. لا شيء .. لا شيء
سار إلى أزرار الكهرباء .. أطفأ الأضواء واحداً واحداً .. متخيلاً الشمس كيف أغرقوها – مستلذين – في بحار الدمع الأحمر .. واضعاً ستائر فوق الستائر المعلقة مانعاً أيّ نور يحاول التسلل إلى الغرفة.. متحسساً كالأعمى وسط الظلام .. وصل كرسيه .. أسند رأسه إلى الوراء، وبعدما تمشت عيناه على الجدران .. بين الأثاث الذي رقدت عليه الظلمات .. أغمضها .. مسترخياً استرخاء تامّاً، في محاولة منه لاختراق الزمن والرحلة عبر الكون ...
ارتسمت له الأرض يوم لم يكن عليها أحد .. صفير الريح يرقص فوق وبين ذرات التراب التي لم تطأها قدم بشرية .. الهدوء وحش أحكم سلطانه، نابتاً مخالبه في جسد العراء .. الجبال جثث معلقة بخيوط وهمية بالسماء .. سارت ذاكرته متعثرة في ممرات الفراغ الضيقة حتى وصل إلى الإنسان الأول.. وحده في القفار .. لا شيء يبحث عنه .. لا شيء يخافه أو يفكر به .. يحبه أو يحقد عليه .. كل شيء لا شيء ..فجأة .. اقتحم حياته شيء لا يعرف ما هو !.. إلاّ أنه شبيه به .. حاول معرفته ..إذاً .. صار له شيء يفكر .. انتابه إحساس غريب لم يعهده من قبل، يدفعه إليه بوحشية الذئاب الجائعة .. إحساس يضطرب كلما نظر إليه .. في سيره .. في جلوسه .. في اضطجاعه .. حتى رأى يديه تلتف حوله .. فكان ما كان بينهما، ومما كان سارت البشرية في مسراها .. عرف انه نصف والذي أمامه هو النصف المكمِّل له .. شعر بازدراء نحو نفسه، حين وجد نفسه ناقصاً لا يكتمل إلاّ بغيره .. استمر في سيره حتى وصل قابيل وهابيل .. ثم إلى .. ثم إلى .. حتى بلغ - عبر الزمن المظلم وقد عاش العصور كلها .. حربها وسلمها .. هدوءها وضجيجها – غرفته .. كرسيه الذي احتضن في دقائق معدودات تاريخ البشرية.. وجلس عليه في آن واحد الأنبياء والملاحدة .. الفلاسفة والحمقى .. الرياح والتراب .. الحقيقة والوهم .. وها هو التاريخ الآن يقف عند باب غرفته المغلق بوجهه، يستأذنه الدخول ليكمل سيره عبر عقله المشكوك بوجوده، ابتسم سائلاً نفسه:
- أيمكن للوجود أن يمر عبر اللاوجود !
اعتدل في جلسته ليكون قاضياً بلا متهم أو جريمة أو دفاع ... والتاريخ الهرم ملّ الانتظار، وهو يراقب من ثقب الباب أنامله التي ستحدد ساعة المسير ....
ليس أمامه سوى ظلمات ترقص على أنغام الصمت الذي يحاول الهروب من الغرفة، إلاّ أن الجدران .. الباب .. الستائر المتدلية كأجساد بشرية مصلوبة على خشبة الوهم، تلهب ظهره بسياط السخرية كلمّا دنا منها، ليعود إلى القاضي خاسئاً وهو حسير متخبطاً في الظلام ..
- لا بدّ من رسم الماضي .. الأساس الذي يقوم عليه المستقبل
قال ذلك وهو ينير الغرفة مرة أخرى، بعدما استقر قراره على كتابة الماضي سائراً على إثره نحو الآتي .. مشى إلى مكتبته وقد تجلت له مقبرة مليئة بالأموات التي ستقرر مصير البشرية .. مدّ يده مرتجفة ليرى أي القبور سينبش أولاً ..
- البداية والنهاية .. ابن كثير .. (قال تعالى :"خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ"، وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه الستة على قولين: فالجمهور على أنها كأيامنا هذه ... وكعب الأحبار: إن كلّ يوم منها كألف سنة مما تعدون ..) ..... بداية طيبة .
وضعه فوق المنضدة، فتلاه الطبري .. ابن الأثير .. تاريخ الحضارة .. كان يقرأ مقتطفات من الورقات الأولى من كل كتاب ..حتى امتلأت المنضدة بملايين السنين، جلس خلقها ناظراً إلى التاريخ المبعثر إمامه نظرة معتوه قرر أن يعيد الزمن، ويصلح ما اعوج منه ..
- في ساعة خرجت عن نطاق الزمن .. لم تحسب بالدقائق والثواني، وإنما بالكلمات والحروف .. في وقت لم يكن بالصباح ولا بالمساء .. توقفت الشمس عند حدود الفجر .. والقمر في الجهة الأخرى مستكيناً لما سيقرره القاضي بكلماته، ومن خلفه اصطفت الظلمات والنجوم صفاً صفاً، منتظرين لحظة النفخ في البوق الذي يحمله هذا المسمى بـ(الإنسان) بين أنامله.. في تلك اللحظة كل شيء تجمد وأخذ مكانه ..
كتب هذا وهو يدير رأسه محدقاً في اللا شيء، لتهوي نظراته مخدوعة في قعر الورقة.. كان فوقهم .. لم تخلق عيونهم له، إلاّ أنهم يعرفونه .. فُتِحَت باب صغيرة جداً، ليخرج منها ظلام شعّ في البقاع .. امتزج بنور الشمس، التف حول النجوم التفاف الأفعى بفريستها .. هاجت الرياح مرتعدة من أنفاسه .. أمّا القمر فما زال ذليلاً وهو يتصبب عرقاً من هذا المخلوق الجديد الذي سبقه الظلام للخروج ..أطّت السماء .. أصاخوا لصوتها وهي تشير إليه :
- يجب أن يُعَذَّب .. يجب أن يموت ..
تقدمت الشمس مغرورة :
- سأغريه بنوري حتى احرقه ..
وقال القمر بعدما استرجع شجاعته :
- سأتظاهر بالسكون وأكون لوحة أرسم فيها آلامه، فلا ينساها أبدا
كانت عيون الظلمات تقدح شرراً وهي تقول:
- سأستره حتى يطمئن، لتحوك له الشمس من ورائي ما تحوك ..
- الوهم قال مغاضباً : سأخدعه ..
حينها تقدمت الحقيقة ضاحكة بخبث :
- سأجعله يركض ورائي حتى يكلَّ، حينها سأشتري حياته بمعرفتي ..
المطر ... الرياح ... التراب ... كلٌّ أخذ مهمته التي ألزم نفسه بها ..إغفاءة لم تطل ثواني ليجدوا أنفسهم فوق الأرض .. و .. كلٌّ قد علم صلاته ..
عامان أو أكثر مرّ على شروعه بكتابة تاريخ البشرية، نظر في المرآة وهو يحمل الجزء الأول ليذهب به إلى المطبعة، خرج والمستقبل يدغدغ أفكاره الطائرة في عوالم ليس بينها وبين الواقع من صلة، بل ربما حتى ليست من الخيال نفسه .... ها هو صار رجلاً شهرته لا تنازع .. ليس هنا فحسب .. بل هنا وهناك وحتى هنالك .. أينما ذهب أشارت نحوه الأصابع:
- هذا الذي أعاد التاريخ وجعل الطماطم بخمسة دنانير.
- هذا الذي وقف الزمن عند بابه ليسأله: كم الساعة..
- سمعت انه مرشح لجائزة نوبل..
- بل إنني سمعت أن جائزة ستُستحدَث باسمه تعطى لأفضل مصففي الشعر ..
برغم أحلامه التي رفعته إلى السماء، إلاّ أنه لم يكن مشغولاً كما كان مشغولاً بأي مقهى سيجلس .. ومن سيدفع له ثمن الشاي ..أو يشتري له السكائر، فقد كانت جيوبه أفواهاً تصرخ :
- ألا من ينقذني من فراغي القاتل ..
حاول أن يتناسى هذا وذاك، وهو يحمل مخطوطته كتلميذ يحمل شهادة النجاح بيده مهرولاً إلى أهله حالماً بالهدية الموعودة ... دخل إلى شارع المتنبي، فأخذ يتخيل كتابه بارزاً مميزاً بين الكتب بروز الباذنجان على الطماطم والبطاطا .. من شارع لشارع .. دخل سوق الصفافير .. السوق العربي .. يخاطب المحلات .. والمارِّين بابتسامته البلهاء :
- أنا الذي أصلح البشرية .. أنا الذي .. أنا الذي ..
حتى دخل سوق الغزل ليقف بين الحمائم وهديلها .. والكلاب ونباحها، كأنه يستذكر شيئاً فاته .. كيف لم يبادل بين الأصوات .. كل شيء تغيّر .. جلس على مسطبة قريبة يراقب الاثنين، واضعاً المخطوطة إلى جانبه، وبعد رحلة خاضها في عالم الأصوات، شعر بالزمن يمر، مما يؤخر شهرته خمس دقائق .. وربما عشرة.. مدّ يده برقة إلى مخطوطته كأنه يمسح على شعر حبيبته، إلاّ أنه لم يشعر إلاّ بأوراق مبعثرة .. التفت مذعوراً .. فإذا بكلب يحتج على ما فكر به فأخذ يأكل تاريخ البشرية ...
- ألا من ينقذني من فراغي القاتل ..
حاول أن يتناسى هذا وذاك، وهو يحمل مخطوطته كتلميذ يحمل شهادة النجاح بيده مهرولاً إلى أهله حالماً بالهدية الموعودة ... دخل إلى شارع المتنبي، فأخذ يتخيل كتابه بارزاً مميزاً بين الكتب بروز الباذنجان على الطماطم والبطاطا .. من شارع لشارع .. دخل سوق الصفافير .. السوق العربي .. يخاطب المحلات .. والمارِّين بابتسامته البلهاء :
- أنا الذي أصلح البشرية .. أنا الذي .. أنا الذي ..
حتى دخل سوق الغزل ليقف بين الحمائم وهديلها .. والكلاب ونباحها، كأنه يستذكر شيئاً فاته .. كيف لم يبادل بين الأصوات .. كل شيء تغيّر .. جلس على مسطبة قريبة يراقب الاثنين، واضعاً المخطوطة إلى جانبه، وبعد رحلة خاضها في عالم الأصوات، شعر بالزمن يمر، مما يؤخر شهرته خمس دقائق .. وربما عشرة.. مدّ يده برقة إلى مخطوطته كأنه يمسح على شعر حبيبته، إلاّ أنه لم يشعر إلاّ بأوراق مبعثرة .. التفت مذعوراً .. فإذا بكلب يحتج على ما فكر به فأخذ يأكل تاريخ البشرية ...
تعليقات